فصل: القسم الثالث مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية: ما يكتب لأرباب الوظائف بالمملكة الحجازية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.القسم الثالث مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية: ما يكتب لأرباب الوظائف بالمملكة الحجازية:

وقد تقدم أنها تشتمل على ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: مكة المشرفة، وبها وظيفتان:
الوظيفة الأولى: الإمارة:
وقد تقدم أن إمارتها في بني الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأنها كانت تولى من أبواب الخلافة ببغداد إلى حين انقراضها، إلا ما تغلب عليه الفاطميون أصحاب مصر في خلال ذلك. ثم استقرت آخراً من جهة ملوك مصر إلى الآن. ويكتب له تقليدٌ في قطع النصف بالمجلس العالي بزيادة ألقاب تخصه، وقد تقدمت ألقابه في أول هذا الطرف.
وهذه نسخة تقليد بإمرة مكة المشرفة: كتب بها عن الملك الناصر محمد بن قلاوون لأسد الدين رميثة بن أبي نمي؛ بإمرة مكة المشرفة، عوضاً عن أخيه عطيفة عند قتل الأمير الدمرجان دار وولده خليل، من إنشاء المولى تاج الدين بن البارنباري رحمه الله في المحرم سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، وهي: الحمد لله الحكيم: فالشريف من اتبع أوامره، العظيم: فالسعيد من اتقى غضبه بأعماله الزاكية ونياته الطاهرة، الكريم: فالفائز من سلك مراضيه في الدنيا ليأمن في الآخرة؛ ومن أخاف عاكف حرم الله وباديه فقد باء بالأفعال الخاسرة، ومن عظم شعائر الله فقد رفل في حلل الإقبال الفاخرة.
نحمده على ألطافه الباطنة والظاهرة، ونشكره ونرجوه وما زال ينجح راجيه ويزيد شاكره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من اتخذ الحق ناصره وأودع إخلاصها ضمائره، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بعثه الله من الحرم فألف القلوب النافرة، وفتح مكة فطهرها من الزمرة الكافرة، وقال في ذلك اليوم: من أغلق عليه بابه فقد أمن فأمسى أهلها ونفوسهم بالأمن ظافرة، صلى الله عليه وعلى آله بني الزهراء العترة الزاهرة؛ وعلى صحبه النجوم السافرة، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن الحكم بالعدل شعارنا، وبالله اقتداؤنا واقتدارنا، وفي الإحسان رغبتنا، وفي كل عنق منتنا، نصفح ونمنح، ونرعى من أمسى قديم الهجرة في ولايتنا وأصبح، ونقيم من أهل البيت لحفظ ذلك البيت الأصلح فالأصلح، ونقدم من لم يزل مقدماً وإلى صوب الصواب يجنح فينجح، وننجي من الهلكة من لاح له منهج الخير فسلكه فأفلح.
وكانت مكة المعظمة هي أم القرى، والبلد الأمين المجزل فيه القرى؛ نشأ الإسلام في بطحائها، وحرمها الله فلا ينفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد تأكيداً لتشريفها وإعلائها، وطلعت شمس النبوة من شعابها، وغسلت الذنوب بوبل سحابها؛ فيها زمزم وكزة جبريل، وفيها بدأ الوحي والتنزيل، وإليها أعنقت الركاب ففي كل أبطح للمطي مسيرٌ ومسيل؛ فكم أتى إليها من سائر الناس سائر، وكم أتى إليها الناس رجالاً وعلى كل ضامر؛ فالرحمة مستقرة بين نواحيها والعيون تتملى بأنوار تلك الأستار حتى تجتليها، والشفاه تتشرف بتقبيل ذلك الحجر الذي يشهد لها في غدٍ ويقيها، فطوبى لمتقيها، وسحقاً لمن أخاف وفد الله فيها؛ ونحن قد بصرنا الله بخدمة بيتها المحرم، وحرمها المعظم، وكرر إليها حجنا وكرمه، فلله الحمد أن كرر حجنا وكرم؛ وما برحنا نقيم في إمارتها من العترة النبوية كل شريف النسب، وكل من يكتسب فيها رضا الله تعالى: وكل امرىءٍ وما اكتسب؛ فمن أصلح منهم أقمناه، ومن حاد عن الطاعة وجحد النعمة أزلناه، ومن أخاف فيه السبيل لم نجعل له إلى الخير سبيلاً، ومن استقام على الطريقة توكلنا على الله ووليناه، وكفى بالله وكيلاً.
وكان فلانٌ هو الذي ما زالت خواطرنا الشريفة تقدمه على بني أبيه، وتختاره أميراً وتجتبيه؛ وربما سلفت من بيته هناتٌ صفحنا عنها الصفح الجميل، وما قابلناهم إلا بما يليق لمجدهم الحسني الحسن الأصيل؛ والإمرة وإن كانت بيد غيره هذه المدة فما كان في الحقيقة أميرٌ عندنا سواه، لأنه كبير بيته المشكور من سائر الأفواه.
و الآن قد اقتضت آراؤنا الشريفة أن نقيمه في بلده أميراً مفرداً إليه يشار، وأن نصطفيه- وإنه عندنا لمن المصطفين الأخيار- وأن نجعل الكلمة واحدةً ليأمن النزيل والجار؛ ومتى تجاذب الأمر كلمتان فسد نظامه، ومتى أفرد الحكم حسنت أحكامه، ومتى توحد الأمر زال الاختلاف، وزاد الائتلاف، وأقبلت أيامه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن تفوض إليه إمرة مكة المشرفة، على عادة والده. فليتقلد ما فوضناه إليه من الإمرة والنيابة بمكة المعظمة، شاكراً ما أنعم الله به عليه من مراضينا التي لا نجاة لمن لم ينل منها نصيباً موفوراً، ولا فوز لمن لم يدرك منها حظاً كبيراً، وليشرع في تمهيد البلاد من إزالة المظلمة، وليطهرها من كل مجترىءٍ على الله تعالى في البقعة المحرمة، ولا يقرب من في قلبه مرضٌ فيعديه، ولا يرجع لمن فيه شقاقٌ ظاهرٌ في صفحات وجهه وفلتات فيه، وليعلم أن هذا بلدٌ حرامٌ حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، وصير حج بيته على مستطيعه من الفرض، وجعله للناس معاداً ومعاذاً، وقال صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».
فليمنع الدماء من أن تراق، والأموال من أن تؤخذ بغير استحقاق؛ والظلم في البلد الحرام حرام، وبنو حسن أحق باتباع سنة الإسلام؛ واتق الله لتلقاه بالوجه الأبيض والعمل الأغر، واتبع سنة جدك: فعلى اتباعها حث وأمر، والق وفد الله في البر والبحر بالحسنى فهم أضيافه، وأمن الحج ليتم نسكه وطوافه.
هذا تقليدنا لك أيها الشريف: فطب نفساً بمراضينا، وصفحنا عما مضى ومنحنا الرضا حقاً يقيناً، لأنا نتحقق أن الإحسان يحرسنا ويقينا، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد شريف لأمير مكة المشرفة: الحمد لله الذي جعل البيت مثابةً للناس وأمناً، ونصب فيه للقانتين ركناً، وجعل أرض الحرم لا تبيد بركاتها ولا تفنى، وجعل لشجرة النسب الهاشمي فيها أصلاً شريفاً كم أخرج غصناً، وآتى بني الحسن فيها إحساناً من لدنه وحسناً، وأقام منهم أميراً في ذلك المحل الأسنى.
نحمده فرادى ومثنى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً كاملة اللفظ والمعنى، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي شيد الله به للدين خير مبنى، وأضحت الضلوع على محبته تحنى، وثمار الخير مما بين روضته ومنبره تجنى، وخصه الله بالشرع المستقيم والدين الأهنى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً في الصدور لها سكنى، وسلم تسليماً.
وبعد، فإن أم القرى، خير البلاد بلا مرا، قد جعل الله للناس إليها رحلةً وسرى، وهجروا في قصدهم إليها لذيذ الكرى، ونصب فيها بيتاً متين العرى، وأنبع فيها بئراً ماؤها يشفي السقيم ويبرىء الورى، وجعل فيها للشرف بيتاً عالي الذرى، فأميرها المطاع، من أهل بيت النبوة لا يخيب ولا يضاع، ذو همة تخافها السباع، ويرهبها البطل الشجاع، يعد من الآباء أسلافاً كراماً، كمصابيح السماء تجلو ظلاماً، وقد طيب الله مقامهم وأعلى مقامهم حين جاوروا مقاماً.
ولما كان.................... هو شريف العرب، المعرق في النسب، الطيب الحسب، المحيي من آثار آبائه ما ذهب، الشريف النفس: فلا يلتفت إلى العرض الأدنى من الرقة وأكد شكره الحرم وأهله، وأثنى على صفاء سيرته الصفا وعلى مروءته المروءة إذ طاب أصله؛ قد اقتفى في الكرم أباه وجده، وأمن سبيل الحاج من جهة البر ومن جهة البحر من جدة.
فلذلك رسم أن يفوض إليه............................................. فليحل البلد الحرام حاكماً وآمراً، وليستجلب له من العاكف والباد شاكراً، وليحسن للطائفين والعاكفين والركع السجود، وليتبع آثار آبائه أهل الكرم والجود، وليؤمن الخائف في تلك التهائم والنجود، وليردع الحائف عن حيفه فلا يعود، وليعلم أنه بوادٍ غير ذي زرعٍ ولكن فيه للبركات ظلٌّ ممدود، وخير مشهود؛ وبمكة مولد أشرف مولود، وجده الحسن رضي الله عنه فليكن حسن الفعال فكما ساد يسود، وليعرب عن الثناء الأبيض عندما يتمسك بتلك الستور السود، وليتلق المحمل الشريف في كل عام، بالاحتفال والإكرام، والطاعة التي يبلغ بها المرام، وليقف مع أمراء الحاج مقيماً لحرمتهم بجميل الاحترام، وليكف الأشرار من العبيد والموالي، عن النهب والتخطف لوفد الله الذي قطع السرى بالأيام والليالي، وليلازم خدمة المحمل الشريف على ما يناسب شرفه، حتى يقف بعرفة، ثم يدفع إلى المزدلفة، إلى أن يقضي الحج ويرحل من مكة المشرفة، وليكن سياجاً على الحجاج، في تلك الفجاج، حتى لا يفقد أحدهم عقالاً، ولا يجد اختزالاً، ويرحلون عن مكة المعظمة من الذنوب خفافاً وبمننه ثقالاً. والوصايا كثيرةٌ وهو غنيٌّ عن أن نطيل له فيها مقالاً، وتقوى الله فمن تمسك بها حسن حالاً، وأنتم أهلها كرمكم الله أهلاً وآلاً؛ والله الله في حفظ جانب الصحابة رضي الله عنهم فليردع عن الخوض فيهم جهالاً، والله يجعله مغموراً مسروراً بنعم الله تعالى، بمنه وكرمه!.
وهذه وصيةٌ لأمير مكة، أوردها في التعريف: وليعلم أنه قد ولي حيث ولد بمكة في سرة بطحائها، وأمر عليها ما بين بطن نعمانها إلى فجوة روحائها؛ وأنه قد جعلت له ولاية هذا البيت الذي به تم شرفه، وعلت غرفه، وعرف حقه له أبطحه ومعرفه؛ إذ كان أولى ولاة هذا الحرم بتعظيم حرماته، وسرور جوانبه بما يلوح من البشر على قيماته، ولأنه أحق بني الزهراء بما ابقته له آباؤه، وألقته إليه من حديث قصيٍّ جده الأقصى أنباؤه؛ وهو أجدر من طهر هذا المسجد من أشياء ينزه أن يلحق به فحش عابها، وشنعاء هو يعرف كيف يتتبعها وأهل مكة أعرف بشعابها.
فليتلق راية هذه الولاية باليمين، وليتوق ما يتخوف به ذلك البلد الأمين؛ وليعلم أنه قد أعطى الله عهده وهو بين ركن ومقام، وأنه قد بايع الله: والله عزيزٌ ذو انتقام؛ وليعمر تلك المواطن، ويغمر ببره المار والقاطن، وليعمل في ذلك بما ينجث عنه نجاره، ويأمن به سكان ذلك الحرم الذي لا يروع حمامه فكيف جاره، ولينصت إلى اسمه عز وجل حيث يعلن به الداعي على قبة زمزم في كل مساءٍ وليعرف حق هذه النعمة، وليعامل من ولي عليهم بما يليق أن يعامل به من وقف تحت ميزاب الرحمة؛ وقد أكد موثقه والله الله في نقصه، ومد يده على الحجر الأسود يمين الله في أرضه؛ وليتبصر أين هو فإن الله قد استأمنه على بيته الذي بناه، وسلمه إليه بمشعره الحرام ومسجد خيفه ومناه؛ وإنه البيت المقصود: وكل من تشوق حمى ليلى فإنما قصده أو لعلع بلعلعٍ فإنما عناه؛ وفي جمعه يجتمع كل شتيت، وفي ليالي مناه يطيب المبيت، وبمحصبه تقام المواسم، وتفتر الثغور البواسم، وتهب من قبل نعمان الرياح النواسم، وفي عقوة داره محط الرحال في كل عام، وسر كل ذات عود تجذب بقلعٍ وعوذٍ تقاد بزمام، وإليه تضرب التجار البراري والبحار، وتأتيه الوفود على كل قطار يحدى من الأقطار؛ وكل هؤلاء إنما يأتون في ذمام الله بيته الذي من دخله كان آمناً، وإلى محل ابن بنت نبيه الذي يلزمه من طريق بر الضيف ما أخذ لهم وإن لم يكن ضامناً.
فليأخذ بمن أطاع من عصى، وليردع كل مفسد ولاسيما العبيد فإن العبد المفسد لا يزجره إلا العصا، وليتلق الحجاج بالرحب والسعة، فهم زواره وقد دعاهم إلى بيته وإنما دعاهم إلى دعة، وليتلق المحمل الشريف والعصائب المنصورة، وليخدم على العادة التي هي من الأدب مع الله تعالى معنى ومعها صورة، وليأخذ بخواطر التجار فإنهم سبب الرفق لأهل هذا البلد وتوسعة ما لديهم، والمستجاب فيهم دعوة خليله إبراهيم- صلوات الله عليه- إذ قال: {واجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم}. ولا تتحيف أموالهم بغرامةٍ يقل بها الغنم، ولا بظلامة فإنه بإزاء هذا البيت الذي يرد دونه من أراد فيه إلحاداً بظلم؛ ولينظر كيف حبس دونه الفيل، وليكف عادية من جاوره من الأعراب حتى لا يخاف ابن سبيل، وليقم شعائر الشرع المطهر، وأوامر أحكامه التي قامت بأبويه: بحكم جده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسيف أبيه حيدر، وليأمر طوائف الأشراف وأشياعهم وسائر أهل موالاتهم وأتباعهم بلزوم ما كان عليه صالح السلف وما عليه الإجماع، وتجنب ما كانت الزيدية زادت فيه وكف الأطماع، وليتق الله فإنه مسؤولٌ لديه عما استرعاه وقد اصبح وهو له راع؛ وإياه أن يتكل على شرف بلده، فإن الأرض لا تقدس أحداً، أو شرف محتده، فإن في يوم القيامة لا ينفع ولدٌ والداً ولا والدٌ ولداً.
الوظيفة الثانية: قضاء مكة:
ويكتب به توقيعٌ في قطع الثالث بالسامي بالياء.
وهذه نسخة توقيع بقضاء مكة المشرفة: الحمد لله الذي أنفذ الأحكام، بالبلد الحرام، وأيد كلمة الشرع في بلده ومنشئه بين الركن والمقام، وجعل الإنصاف الجزيلن حول حجر إسماعيل، متسق النظام.
نحمده حمداً حسن الدوام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبدٍ قائمٍ بحقها أحسن القيام، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله السامي من ولد سام، والذي قام لله حتى ورمت منه الأقدام، وأسري به من مكة إلى السماء مرتين: في اليقظة والمنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمة الصلاة والصيام، وسلم تسليماً.
وبعد، فإن وظيفة القضاء بمكة المعظمة هي أجل منصبٍ بتلك الأباطح، ونورها في الجبين لائح، فإن الشرع نشأ منها والوحي أنزل فيها فزهيت البطائح، وظهرت النصائح، وأطربت الصوادح، وأسكتت النوائح، وغمرت المنائح، وانتشرت المصالح؛ فمن ولي الحكم بها وعدل فذلك هو العدل الصالح؛ وكيف لا؟ وماء زمزم شرابه، وأستار البيت تمسها أثوابه، وعلى الله أجره وثوابه، وفي ذلك الجناب الشريف كرم جنابه، وإذا دعا الله عند الملتزم جاءه من القبول جوابه.
ولما كان فلانٌ هو فرع الدوحة المثمرة، ومحصل من العلوم الشرعية المادة الموفرة، وله البحوث التي هي عن أحسن الفوائد وغرر الفرائد مسفرة، ورضي أهل الحرم، لما جبل عليه من خيرٍ وكرم، تمسك بالعروة الوثقى والقوي الأتقى فلا جرم.
فلذلك رسم............................................... - لا زال.........................
فليكن في أم القرى، كالوالد المشفق على الورى، وليتمسك من التقوى بأوثق العرا، وليخش رب هذا البيت إنه سميعٌ يسمع ويرى، ووفد الله قطعوا إليه المراحل في السرى، ليصافحوا كفه المضمخ عنبرا، وليقض بين الخصوم بالحق فمثله من درأ الباطل: قد جعله الله جار بيتٍ عالي الذرا، وفي أرضٍ شرف الله جبالها وقدس غيرانها فمنها غار ثورٍ وغار حرا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعبد في غار حرا، وأوى إلى غار ثورٍ لما هاجر مؤيداً مظفرا؛ والوصايا كثيرةٌ وملاكها تقوى الله فليتمسك بها من أمامٍ وورا، والله تعالى يجعل نهاره منورا، وليله مقمرا، بمنه وكرمه!
القاعدة الثانية: المدينة النبوية، وبها ثلاث وظائف:
الوظيفة الأولى: الإمارة:
والأمر فيها على ما مر في إمارة مكة المشرفة.
وقد تقدم أن إمارتها في بني الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ويكتب لها تقليدٌ في قطع النصف بالمجلس العالي أيضاً بألقاب مخصوصة، وقد تقدم ذكر ألقابه.
وهذه نسخة تقليد شريف بإمارة المدينة النبوية، كتب به للأمير بدر الدين ودي بن جماز من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله، سقى الله عهده: الحمد لله الذي صرف أمرنا في أشرف البقاع، وشرف قدرنا بملك ما انعقد على فضله الإجماع، وعرف أهل طيبة الطيبة كيف طلع البدر عليهم من ثنيات الوداع، وأمدها بوديٍّ صغر للتحبب وإلا فهو واد متدفق الأجراع.
نحمده على نعمه التي أغنت مهابط الوحي عن ارتقاب البرد اللماع، وارتقاء النظر مع بدره المنير إلى كل شمس سافرة القناع، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تخمد من الضلال ما شاع، ومن البدع ما استطار له في كل أفقٍ شعاع، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أشرف من أنفت به حمية الامتناع، وألفت بنا سنته أن ترعى لأهلها ولا تراع، وعصفت ريحها بمن يمالي دينه فمال إلى الابتداع، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ليس في فضل أحدٍ منهم نزاع، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن الاهتمام بكل جهة على قدر شرفها، وعلى حسب الدرة الثمينة كرامة صدفها، والكمامة بثمرها، والغمامة بمطرها، والهالة بما يجلو الدجى من قمرها؛ والمدينة الشريفة النبوية لولا ساكنها ما عاجت إليها الركائب، ولا ناجت حدائقها غر السحائب، ولا وقفت بتأرج شذا الروضة الغناء بها الجنائب، ولا بكى متيمٌ دمن العقيق بمثله من دم ذائب، ولا هاج إليها البرق متألقاً، ولا هام صبٌّ فيها بظبيات سلعٍ والنقا، ولكنها مثوى النبوة ترابها، ومهوى الرسل جنابها، ومأوى كتاب الله الفسيح رحابها؛ دار الهجرة التي تعالت شمس الشريعة بأفقها، وتوالت سحب الهدى من بين أبيرقها، وهي ثانية مكة المعظمة في فضلها إلا ما ذهب إليه في تفضيلها على مكة مالك بن أنس، ومنها انبعثت للهدى نوارة كل نور وشعاع كل قبس، وكانت لنبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم أبقى داريه، وأعلى سماءٍ حوت ثلاثة أقمارٍ منه ومن جاريه.
ولما كان بها لبعض الولاة من الشيعة مقام، ولهم فيها تحاملٌ لا يجوز معه من الانتقاد إلا الانتقال أو الانتقام، حتى إنه فيما مضى لما كثر منهم على بغض الصاحبين- رضي الله عنهما- الإصرار، واشرأبوا في التظاهر بسبهما إلى هتك الأستار، دب من النار في هذا الحرم الشريف ما تعلق بكل جدار، وأبت لها حمية الغضب إلا أن يطهر ما سنته أيدي الروافض بالنار؛ فلما اتصل بنا الآن أن منهم بقايا وجدوا آباءهم على أمة، واقتدوا بهم في مذهب الإمامية بما لا أراده الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أولئك الأئمة، وحضر المجلس العالي الأميري الأصيلي، الكبيري العادلي، المجاهدي، المؤيدي، الزعيمي، المقدمي، الذخري، الكافلي، الشريفي، الحسيبي، النسيبي، الأوحدي، البدري، عز الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، جمال العترة الطاهره، جلال الأسرة الزاهرة، طراز العصابة العلوية، كوكب الذرية الدرية، خلاصة البقية النبوية، ظهير الملوك والسلاطين، نسيب أمير المؤمنين، ودي بن جماز الحسيني- أدام الله تعالى نعمته- بين أيدينا الشريفة بمحضر قضاة القضاة الأربعة الحكام، وتذمم بأن مع طلوع بدره المنير لا تبقى ظلامةٌ ولا ظلام، وتكفل لأهل السنة بما أشهدنا الله به عليه ومن حضر، وتلقى بإظهار فضل الترتيب كما هم عليه: النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكرٍ ثم عمر؛ فما اختصهما الله بجواره إلا ليثبت لهما على غيرهما إفضالاً، وليجعل قبورهما في معرفة أقربهم منه درجةً مثالاً، لما تواترت به الأحاديث الشريفة في فضائلهما مما هو شفاء الصدور، ووفاءً بعهده إذ يقول: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور»؛ فلم يسعنا إلا أن نجعل له منا تقليداً يمحو بحده ما حدث من أحداث البدع، ويجدد من عهد جده نبينا صلى الله عليه وسلم في معرفة حق أصحابه رضي الله عنهم ما شرع، وثوقاً بأنه من بيتٍ كان أول هذا الدين الحنيف من دله، ومبدأ هذا الحق الظاهر ما أثلته ومثلته في سلفه الشريف بأقارب متصلة؛ وأنه هو المورث من الفخار ما ورثه عن آبائه الكرام، المحدث عن كرم الجدود بما لا يحقر له جوارٌ أو يخفر ذمام، المشرق من الأسرة العلوية بدراً تماماً، المحدق به من الكواكب العلوية ما يظن به أباً تسمى وابناً تسامى، المنتخب من آباء صدق أحسن في ديارهم الصنيع، وحفظ من حسبهم الكريم ما أوشك أن يضيع، واستضاء بلامعةٍ من هدى سلفه السابق، وهامعةٍ من ندى ما يرويه السحاب عن الجود والبرق عن المهارق، تهتز بمقدمه المدينة سروراً، وتفتر رباها منه بنسب كأن على نسبه من شمس الضحى نوراً، ويتباشر ما بين لابتيها بمن يحمي حماها، ويحيي محياها، وتتشوف منه ربا كل ثنية إلى ابن جلاها، وطلاع ثناياها، مع ما لا يجحد من أن له فيها من أبيه حق الوراثة، وأنه لما كان هذا ثاني المسجدين احتاج إلى ثاني اثنين تعظيماً للواحد وفراراً من الثلاثة، ليكون هو ومن فيها الآن بمنزلة يدين كلتاهما تقبل الأخرى، وأذنين كلتاهما توعي دراً، وعينين ما منهما إلا ما يدرك أمراً بعيداً، وفرقدين لا يصلح أن يكون أحدهما فريداً، وقمرين لا يغلب أحدهما على الآخر في التسمية بالقمرين، وعمرين وكفى شرفاً أن لا يوجد في الفضل ثالثٌ للعمرين.
فرسم بالأمر الشريف العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الفلاني- زاد الله بن المواطن شرفاً، وزاد به البواطن الشريفة حباً وشغفاً- أن يفوض إليه نصف الإمرة بالمدينة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، شريكاً للأمير سيف الدين ابن أخيه، ورسيلاً معه فيما يليه، ولكل منهما حقٌّ لا يكاد الآخر يخفيه، هذا له بر الولد وهذا له حرمة الوالد لأن ابن الأخ ولدٌ وعم الرجل صنو أبيه؛ فتقسم الإمرة بينهما نصفين، وتوسم جباه الكتب الصادرة عنهما لهما باسمين.
والوصايا تمد من عنانها، وتعد من أعيانها؛ فأولها تقوى الله فإنها من شعائر القلوب، وبشائر الغيوب، وأمائر نجاح كل مطلوب، والاعتصام بالشريعة الشريفة: فإنها الحبل الممدود، والجبل الذي كم دونه من عقبة كؤود، والانتهاء إلى ما نص عليه الكتاب والسنة والإجماع، وقص جناح من مال به الهوى إلى مجاذبة الأطماع، وتلقي وفد الله الزائر بما ألفه نزيل هذا الحمى من كرامة الملتقى، وتوقي المذمة فإنها دنسٌ لا يحمد مثله نقاء هذا النقا؛ ونعني بالمذمة ما نسب إلى الروافض من البدع التي لا تطهرها غر السحاب، ولا يستبيح معها لدخول المسجد الطاهر من قنع بمقامه حوله التيمم بالتراب؛ ولا يدع أحداً من هذه الفرقة الضالة بعلي ولا يعيره بما يكون به مثلة، ولا يشبه قلبه في محبة أهل البيت- سلام الله عليهم- بإناءٍ امتلأ ماءً ولم تبق فيه فضلة.
ولا يظن جاهلٌ منهم أن عليه- كرم الله وجهه- كان على أحد من الصاحبين معاتباً أو عاتب، أو أنه تأول في خلافتهما معتقداً أن أحداً منهما غاصب؛ فما تأخر عن البيعة الأولى قليلاً إلا لاشتغاله بما دهمه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم من المصائب، وإلا فقد اتخذ أم ولدٍ من سبي أبي بكر رضي الله عنه لا كما يدعيه كل كاذب، وقد تزوج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنته أم كلثوم وأقام بأمره الحدود وناب عنه وهو غائب؛ فيكف من عادية هؤلاء الروافض الأشرار ما سيصلون في المواقفة بناره، وسيصلون إلى الموافقة على ما طار من شراره، ولا يدع للإمامية إماماً يقتدي به منهم قومٌ شرار، ولا قاضياً يقضي بينهم: فإنه إنما يقطع لمن قضى له أو عليه قطعةً من نار، ولا عالماً يرفع له علم، ولا يفتح لهم بفتوى على مذاهبهم فم، حتى ولا ما يتحرك به في فم الدواة القلم.
وليطهر هذا المسجد الشريف من دنسهم، وليمط ما يحمله أديم مجلدات التصانيف من نجسهم؛ وسكان هذا الحرم الشريف ومن أقام عندهم من المجاورين، أو خالطهم من زمر المقيمين والسائرين، يحسن لأمورهم الكفالة، ولا يتعرض لأحدٍ منهم بما يؤذي نفسه ولا يناله؛ فهم في جوار نبينا صلى الله عليه وسلم وفي شفاعته، وكلٌّ منهم نزيل حرمه ومكثر سواد جماعته، وحقهم واجب على كل مسلم فكيف على حامي ذلك الحمى، بل من له إلى نسبه الشريف منتمى.
واصحب رفيقك بالمعروف فإنكما مفترقان والسعيد من لا يذم بعد فراقه، ومستبقان إلى كل موردٍ لا يدرى أيكما المجد في سباقه، ومتفقان على فرد أمرٍ وأفضلكما من دوام صاحبه على إرفاقه، وصحبه على وفاقه.
وأما ما للمدينة الشريفة من تهائم ونجودٍ مضافةٍ إليها، ومستظلة بجدرها أو متقدمة في الصحراء عليها، فهي ومن فيها: إما أن توجد بقلوبهم فهم أعوان، وإما أن تنفر فهم أشبه شيءٍ بالإبل إذا نفرت تعلق بذنب كل بعيرٍ شيطان؛ فأقربهما إلى المصلحة تقريبهم، وتأليفهم بما يقرب به بعيدهم ويزداد قربى قريبهم؛ والركبان التي تتقد بهم جمرات الأصباح والعشايا، ويعتقد كلٌّ منهم في معاجه إلى المدينة الشريفة أن تمام الحج أن تقف عليها المطايا؛ فهم هجود سرى، ووفود قرى، وركودٌ في أفق الرحال خلعت مقلهم على النجوم الكرى، ومعهم المحامل الشريفة التي هي ملتف شعابهم، ومحتف ركابهم، وهي من أسرتنا المرفوعة، ومبرتنا المشروعة؛ فعظم شعائر حرماتها، وقبل أمام منابرها الممثلة مراكز راياتها، وأكرم من جاء في خفارتها، ومن جال في دجى الليل لا يستضيء إلا بما يبدو من إشارتها، وقد أشهدنا عليك من هو لك يوم القيامة خصيم، وأنت وشأنك فيما أنت به عليم.
وباقي الوصايا أنت لها متفطن، وعليها متوطن، وما ينتفع الشريف بحسبه، إن لم يكن عمله بحسبه، ولا يرتفع بنسبه، إن لم يتجنب مكان نشبه، والله تعالى يمتع بدوام شرفه، ولا يضيع له أجر حال عمله الصالح وسلفه؛ والاعتماد.......................
وهذه نسخة تقليد شريف بإمرة المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: الحمد لله الفرد بلا شريك، الواحد لا من أعداد تقتضي التشويك، المليك الذي يتناهى إليه تقليد كل مليك.
نحمده حمداً يكمل مواهب التمليك، ويحمد عواقب التسليك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تصدع التشكيك، وتصد كل أفيك، وتسد خلل التدريك، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من حمي به عريك، وحمى عليه تريك، وحمل حتى تأتى له التحرير على التحريك، وتأنى وما فاته على أعدائه النصر الوشيك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تخلص كالذهب السبيك، وترفع ما شيد وتمنع ماشيك، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فلما كانت المدينة الشريفة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- حرماً لا يستباح، وحمىً ليس إلا لمن انتهكه دمٌ مباح، وجناباً ما على من حله جناح، ومهبط وحيٍ لا يمسح بأركانه لغير الملائكة جناح، ولا يمسك بعصمة من أغضى فيه على قذى، وسكت لساكنيه على أذى.
ولما اتصل بنا عن الروافض ما لا صبر لمسلم يرجو الله واليوم الآخر عليه، ولا وجه لمن قنع فيها بإخراج يديه، ولا عذر لمن لقي الله مغصباً لما ينهى إليه، لا مغضباً لما ينال رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعرض إلى صاحبيه، مما تقاضى منا ما يمحو ظلامه الممتد، وظلمه المشتد، وبدعهم فسواءٌ من ابتدعها ومن ارتد- فمكنا بتقليدنا الشريف من أعطى الله وأعطانا على قوله موثقاً، وجرد عزائم لا تردها من خدعهم الرقى، وأشهد الله عليه ومن حضر أنه لا يدع هذه الفرقة الضالة حتى يدع يتيمها، ويعد لمقاتل السيوف حطيمها: مما تضمنه نص ماضي ذلك التقليد، وما ضم ذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، ونبهنا على أنه بدرٌ لم يبق مع طلوعه ظلمةٌ ولا ظلامة، ولا إضاعةٌ ولا إضامة، ولا ما تتجنب به الركائب تمام الحج في مواقفها، ولا تنكر ما جهلت في قباب قباءٍ من معارفها، وترد أعطانها ولا يسوقها إلى الأبرق بارقٌ على أطلاله، ولا يعجبها إن خيل لها في النخيل مقيل في ظلاله.
وكان المجلس العالي- أدام الله تعالى نعمته هو المتكفل بتطهير ذلك الحرم الشريف من ألم كل قولٍ يفترى، ولم كل باطلٍ يلم يقظةً أو طيف كرى، وإزالة كل شحٍّ فيها على من أمل قرى أم القرى، وإماتة كل بدعة تسكب على مثلها العبرات، وإماطة كل أذىً من طريق منى والجمرات، ومنع شقاشق شيعةٍ تغلي مراجلها من الزفرات، وقطع كل نجوى ينادون بها من وراء الحجرات، وقلع طائفةٍ لولا إقامة حدود الله لكفاهم ما يقطع أكبادهم من الحسرات؛ وكان بها من أولاد أخيه، بل بعضه منه وبعضه من بني أبيه، من التهى عما تتحلى به شيم الشريف الشريفة، وانتهى إلى ما لا يعنيه ولا يغنيه في تأخير خليفة وتقديم خليفة، وأهمل حقوقاً عواقبها مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مخيفة، وأوهم عقوقاً لأصحابه بل له لقوله: «دعوا لي أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما أدرك مدي أحدهم ولا نصيفه». وبقي يتصل بنا في هذا المعنى ما لا يقال مما يقال عنهم، ويصل أذاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحبيه وقد قال: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما يرون النجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكرٍ وعمر منهم» يطلبون في التقديم على من قدمه الله رد فائت ما جرى به القدر، ويضربون صفحاً عما لا أراده الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا أدري ما قد بقي لي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكرٍ وعمر». مع ما أضيف إلى هذا من قوادح نواب، وفواتح أبواب، وحوادث تزعج مقر النبوة أنباؤها، وتمتد على مشارق الأنواء ظلماؤها، وتغير عوائد الوفود في كرامة زائرهم، وإدامة بشاشة الملتقى لسائرهم، وأمن سربهم أن يراع، وشربهم أن يتمثل به لغير برق شعاع، وضمهم إلى ذلك الحمى الذي لا يضام نزيله، ولا يرام في طريق المجرة سبيله، ولا يضل سارٍ إليه ووجوه سكان الحمى دليله، ولا يضيع وقد تلقاه من النسيم بليله بليله، ولا يقف وقفة المريب وضوء الصابح من أيمن النقا قنديله، ولا يخشى وشعب ذلك الحي شعبه وقبيله قبيله، وإراحة ركابهم التي أزعجها حادي السرى، وإمتاعهم بقرب الجوار عوضاً من دموعهم عما جرى.
فلما لم يبق لمن أشرنا إليه- ممن أعطانا عهد موثقه، وسار لا يريد إلا نقاء نقاه وبراءة أبرقه- إلا أن يحط بالمدينة الشريفة ركابه، ويبعد الشكوى مما لا عهد من معاهدها اقترابه- أصر من فيها من ذوي قرابته على منعه أن يدخلها إلا بقتال يخل مقاعد الحرم، ويحل معاقد الحرم، ويشعل ناراً يصلى بها من لم تمتد له يدٌ إليها إلى وقود، ويروع من الآلاف فيها من يمتد له في غير مراتع غزلان النقا سجاف قيام معقود، وقدم إلى أبوابنا العالية من كان فيها مقيماً، وأنعمنا عليه بإبقاء النصف ففاته الكل لما لم يقنع أن يكون قسيماً؛ فابت حميتنا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولتلك المواطن المعظمة إلا أن نطهرها مما أسبلت على سريره أذيالها، وما أطاقت على مضضه الأليم احتمالها.
فرسم بالأمر الشريف- لا زال قدره عالياً، وبره لا يخل بودي ولا يخلي موالياً- أن تفوض إليه إمرة المدينة الشريفة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: مستقلاً بأعبائها، مستهلاً سحابه على أرجائها، إمرةً تستوعب جميعها، وتستوعي لمراسمه رباها وربوعها وعاصيها ومطيعها، وتهائمها ونجودها، وقريبها وبعيدها، وكل ما يدخل لها في حد، وينتظم لها في عد، وأهل حاضرتها وباديتها، وما تقف عليه من السحب ركائب رواعيها وغاديتها، ومن تتبسم بهم ثناياها، وتتنسم لهم أرواح بكرها وعشاياها، ومن يضمهم جناحها المفضل، ويلمهم وشاحها المفضل، ويجمعهم جيشها السائر، ويلفهم في شملة الدجى قمرها الزاهر- تفويضاً يدخل فيه كل شريف ومشروف، ومجهول ومعروف، ومستوطن من أهلها، وغريبٍ انتهت به إليها مطارح سبلها، ما فيه تأويلٌ، ولا تعليلٌ، ولا استثناءٌ، ولا انثناء، ولا تخرج منه الأرض المغبرة ولا الروضة الغناء، لا شبهة فيه لداحض، ولا حجة لمعارض؛ يستقل بها جميعها بدره التمام، وبره الغمام، وبحره الذي يأبى فريده أن يؤاخى في نظام، وأمره الذي يتلقى به عن الثقة من سادات بيته مقاليد الأحكام، وتقاليد ما يجري به القلم ويمضي السيف الحسام، إفراداً في التحكيم، وأنفةً لمثله من ضرر التقسيم، وفراراً من الشركة المشتقة من الشرك: {إن الشرك لظلمٌ عظيم}، ولايةً تامة، عامة، كاملة، شاملة، لا يبقى من أهل نجدٍ من لا يدخل في حكمها، وينضاف إلى قسمها، تقابل السوابق في غاياتها، وتقاتل الجحافل تحت راياتها، ويعد مع أهل بدر فيها، ويعد من حقوقها ما يوفيها.
وقد سبق من الوصايا ما فيه غنى، إلا ما لا تخل العوائد به مما يذكر هنا؛ وقد حويت بحمد الله في جميع طباعك، وجميل انطباعك، من حق اعتزامك؛ وصدق التزامك، ما هو كالسنا للشمس، والمنى للنفس، مما تحسد على شرفه النجوم، وتنافس العلياء ما تعلق به الغيوم.
فكمل بتقوى الله شرفك، واتبع في الشريعة الشريفة سلفك؛ وكتاب الله المنزل، أنتم أهل بيت فيكم تنزل، وسنة جدكم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تهمل، وهي مجدكم المؤثل، ومعرفة حق من مضى عنكم، وإلا فعمن تنقل، ومنكم، وإلا فممن تؤمل، وإزالة البدع وإلا فلأي شيءٍ سيوفكم تصقل، ولماذا رماحكم تعدل؛ والرافضة وغلاة الشيعة هم دنس من انتمى إلى هذا البيت الشريف بولائه، وسبب وقوف من يقصد الدخول تحت لوائه؛ فهم وإن حسبوا من أمداده، ليسوا- وحاشى نوره الساطع- إلا من المكثرين لسواده؛ أرادوا حفظ المودة في القربى فأخلوا، وقصدوا تكثير عددهم فقلوا، وأنف من هو بريءٌ من سوء مذهبهم، أن يتظاهر بالولاء فيعد من أهل البدع بسببهم؛ مع أنهم طمعوا في رضا الله فأخطأتهم المطامع، وصحيحٌ أنهم زادوهم عدداً إلا أنها كزيادة الشغياء أو كزيادة الأصابع.
فصمم عزمك على ما عاهدت الله عليه من رفع أيدي قضاتهم، ومنعهم هم ومن اتبع خطوات الشيطان في سبيل مرضاتهم، وحذرهم مما لا يعود معه على أحد منهم سترٌ يسبل، ولا يبقى بعده لغير السيف حكم يقبل؛ فمن خاض للسلف الصالح يم ذمٍّ أغرق في تياره، أو قدح فيهم زناد عناد أحرق بناره؛ وألزم أهل المدينة الشريفة- على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم- بكلمة السنة فإنها أول ما رفعت بتلك المواطن المعظمة أعلامها، وسمعت في تلك الحجرة المكرمة أحكامها، مع تعفية آثار ما ينشأ على هذه البدعة من الفتن حتى لا ينعقد لها نقعٌ مثار، وتوطئة أكناف الحمى لئلا يبقى به لمبطلٍ في مدارج نطقه عثار؛ والوصية بسكان هذا الحرم الشريف ومن ينزل به من نزيل، ويجاور به مستقراً في مهاد إقامة أو مستوفزاً على جناح رحيل، ومن يهوي إليهم من ركائب، ويأوي إليهم من رفقة مالت من نشوات الكرى بهم راقصات النجائب، ومن يصل من ركبان الآفاق، وإخوان نوىً يتشاكون إليهم مر الفراق، ومن يتلاقى بهم من طوائف كلهم في بيوت هذا الحي عشاق، وأمم شتى جموعهم: من مصرٍ وشام ويمن وعراق، وما يصل معهم في مسيل وفودنا، وسبيل جودنا، ومحاملنا الشريفة التي ينصب لنا بها في كل أرض سرير، وأعلامنا التي ما سميت بالعقبان إلا وهي إليها من الأشواق تطير؛ فمتى شعرت بمقدم ركابهم، أو برقت لك عوارض الأقمار من سماء قبابهم، فبادر إلى تلقيهم، وقبل لنا الأرض في آثار مواطيهم، وقم بما يجب في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعتنا وأخرج عنهم كل يد ولا تخرجهم عن جماعتنا.
وأهل البادية هم حزبك الجيش اللهام، وحربك إذا كان وقودها جثثٌ وهام، وهم قوم لم يؤدبهم الحضر، ولا يبيت أحدٌ منهم لأنفته على حذر، فاستجلب بمداراتك قلوبهم الأشتات، وبادر حبال إبلهم النافرة قبل البتات، وترقب مراسمنا المطاعة إذا ذرت لك مشارقها، وتأهب لجهاد أعداء الله متى لمعت لك من الحروب بوارقها، وأحسن كما أحسن الله إليك، وولولا أن السيف لا يحتاج إلى حليةٍ لأطلنا حمائل ما نمليه عليك؛ فما شهد للشريف بصحة نسبه، أوكى من عمله بحسبه؛ والله تعالى يقوي أسبابك المتينة، ويمتع العيون بلوامعك المبينة، ويمسك بك ما طال به إرجاف أهل المدينة، والاعتماد...........
وهذه نسخة تقليد بإمرة المدينة النبوية، وهي: الحمد لله الذي خص بالنضرة، دار الهجرة، وأطلع للإيمان فجره، بتلك الحجرة، وطيب طيبة وأودع فيها سليل الأسرة.
نحمده حمداً نأمن به مكره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد تمسك بالحج وتنسك بالعمرة، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي شرف الله قدره، وأنفذ أمره، وأيده في ساعة العسرة، وكان أكرم الناس في العشرة، وأسخى العالمين إذ يبسط بالجود راحتيه فما أسمح عشره، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة ثبتت شجرتها من الأرض فاتصلت فروعها بالسدرة، وسلم تسليماً.
وبعد، فإن المدينة النبوية معدن الهدى والوقار، ومسكن الرضوان والأنوار، ومهبط الملائكة الأبرار، ومنزل الوحي في الليل والنهار، ودار الهجرة للنبي المختار، وتربة مدفنه الزاكي المعطار؛ تشد الرحال إليها من أقاصي الأقطار، ويأتي إليها الظالمون لأنفسهم بالاستغفار، فيرجعون وقد محيت عنهم الأوزار؛ فقلوب أهل الاشتياق مقيمةٌ في فناء تلك الدار، وإن كانت أجسامهم بعيدةً من وراء البحار، وبها من آل البيت سادةٌ أطهار، وأمراء كبار، يتقرب إلى الله بحبهم في الإعلان والإضمار، ويتوسل بولائهم في دعوة الأسحار، قد ضموا إلى كرم الراحة، وسماحة الأنفس المرتاحة، شجاعةً وبسالة، وعلويةً فعالة، وتمسكاً بالمروءة المعروفة بشرف الأصالة؛ وهم يتوارثون إمرتها عن آباء سادات، وكرام لهم في الفضل عادات.
ولما كان فلان هو بقية الأسرة المتضوعة، وثمرة الشجرة المتفرعة، والمخصوص بالوصف الذي رفعه، والقول الذي اتبعه حين سمعه- ما زال في المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام مشكور الطريقة، محفوظ الوثيقة، معروف الحقيقة، موصوف الآثار الحسنة بين الخليقة، يجتني لكل صالحة من تلك الروضة الشريفة المثمرة الوريقة، ويحمي السرح أن ينتهب، ويطفيء نار الفتن فما تلتهب، ويعظم المجاورين والواردين والقادمين على حمى سيد العجم والعرب.
فلذلك رسم أن يستقر................
فليحل هذا الربع المعمور بالتقى، وليباشر هذه الإمرة الشريفة زادها الله علواً وارتقا، وليستعملا لسكينة فإنها جميلة اللقا، وليسلك الأدب مع ساكن النقا، وليعتمد على حسن اليقين فإنه لو وقا، وقد جاور العقيق فاصبح بقلائده الفاخرة مطوقا، وليحكم بالعدل في بلدٍ نشأ منه العدل والإنصاف فمنذ اجتمعا فيه ما افترقا، وليصن شرفه من الولوج في فتنة، وليغمد سيفه ولا يشهره في وقت محنة، ويحقن الدماء أن تراق، ويتلق الزوار بالإرفاق، فإنهم جاءوا من أقاصي الآفاق، رجالاً وعلى النياق، تحثهم الصبابة والأشواق.
وكلمة الشرع وشعار السنة فليكن معظماً لها باتفاق بغير شقاق، وشيخ الحرم الشريف وخدامه ومجاوريه فليكرم محاسنهم ويعامله بحسن الأخلاق، ويتجاوز عن مسيئهم بطيب أخلاق، وحواصل الحرم الشريف المخزونة فيه فلتكن محميةً من التبذير في وقت الإنفاق، وتلك دارٌ هم سكانها الطيبو الأعراق؛ والتقوى فمن بيتهم الشريف آثارها الإشراق، وعليهم نزل الفرقان والتحريم والطلاق، فماذا عسى أن يوصيه وهو أهل الفضل على الإطلاق؛ والله تعالى يجعل نجاره في الفخر مجليه في السباق، بمنه وكرمه!.
وهذه وصية لأمير المدينة أوردها في التعريف وهي: فكمل بتقوى الله شرفك، واتبع في الشريعة سلفك؛ وكتاب الله المنزل، أنتم أهل بيت فيكم تنزل، وسنة جدك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تهمل، وهي مجدكم المؤثل، ومعرفة حق من مضى، عنكم، وإلا فعمن تنقل، ومنكم، وإلا فممن تؤمل، وإزالة البدع وإلا فلأي شيءٍ سيوفكم تصقل، ولماذا رماحكم تعدل، والرافضة وغلاة الشيعة هم دنس من انتمى إلى هذا البيت الشريف بولائه، وسبب وقوف من يقصد الدخول تحت لوائه؛ فهم وإن حسبوا من أمداده، ليسوا- وحاشى نوره الساطع- إلا من المكثرين لسواده؛ أرادوا حفظ المودة في القربى فأخلوا، وقصدوا تكثير عددهم فقلوا، وأنف من هو بريءٌ من سوء مذهبهم، أن يتظاهر بالولاء فيعد في أهل البدع بسببهم؛ مع أنهم طمعوا في رضا الله فأخطأتهم المطامع، وصحيحٌ أنهم زادوهم عدداً إلا أنها كزيادة الشغياء أو كزيادة الأصابع.
فصمم عزمك على ماعاهدت الله عليه من رفع أيدي قضاتهم، ومنعهم من اتباع خطوات الشيطان في سبيل مرضاتهم، وحذرهم مما لا يعود معه على أحد منهم ستر يسبل، ولا يبقى معه لغير السيف حكمٌ يقبل؛ فمن خاض للسلف الصالح يم ذم أغرق في تياره، أو قدح فيهم زناد عناد أحرق بناره؛ وألزم أهل المدينة الشريفة النبوية بكلمة السنة فإنها أول ما رفعت بتلك المواطن المعظمة أعلامها، وسمعت في تلك الحجرة المكرمة أحكامها، مع تعفية آثار ما ينشأ على هذه البدعة من الفتن حتى لا ينعقد لها نقعٌ مثار، وتوطئة أكناف ذلك الحمى لئلا يبقى به لمبطل في مدارج نطقه عثار؛ والوصية بسكان هذا الحرم الشريف على الحال به أفضل الصلاة والسلام ومن ينزل به من نزيل، ويجاور به مستقراً في مهاد إقامة أو مستوفزاً على جناح رحيل، ومن يهوي إليهم من ركائب، ويأوي إليهم من رفقةٍ مالت من نشوات الكرى بهم راقصات النجائب، ومن يصل من ركبان الآفاق، وإخوان نوىً يتشاكون إليهم مر الفراق، ومن يتلاقى بها من طوائف كلهم في بيوت هذا الحي عشاق، وأمم شتى جموعهم من مصرٍ وشام ويمن وعراق، وما يصل معهم في مسيل وفودنا، وسبيل جودنا، ومحاملنا الشريفة التي ينصب لنا بها في كل أرضٍ سرير، وأعلامنا التي ما سميت بالعقبان إلا وهي إليها من الأشواق تطير.
فمتى شعرت بمقدم ركابهم، أو برقت لك عوارض الأقمار من سماء قبابهم، فبادر إلى تلقيهم، وقبل لنا الأرض في آثار مواطيهم، وقم بما يجب في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعتنا، وأخرج عنهم كل يد ولا تخرجهم عن جماعتنا.
وأهل البادية هم حزبك الجيش اللهام، وحربك إذا كان وقودها جثثٌ وهام، وهم قوم لم يؤدبهم الحضر، ولا يبيت أحدٌ منهم لأنفته على حذر، فاستجلب بمداراتك قلوبهم الأشتات، وبادر حبال إبلهم النافرة قبل الانتبات، وترقب مراسمنا المطاعة إذا ذرت لك مشارقها، وتأهب لجهاد أعداء الله متى لمعت لك من الحروب بوارقها، وأحسن كما أحسن الله إليك؛ ولولا أن السيف لا يحتاج إلى حلية لأطلنا حمائل ما نمليه عليك؛ فما شهد للشريف بصحة نسبه، أزكى من عمله بحسبه، والله تعالى يقوي أسبابك المتينة، ويمتع العيون بلوامعك المبينة، ويمسك بك ما طال به إرجاف أهل المدينة.
الوظيفة الثانية: القضاء:
وكان في الزمن القديم بها قاض واحدٌ شافعيٌّ، ثم استقر بها قاضيان آخران: حنفيٌّ ومالكيٌّ، يكتب لكلٍّ منهما توقيعٌ في قطع الثلث بالسامي بالياء.
وهذه نسخة تقليد بقضاء الشافعية بالمدينة النبوية: الحمد لله الذي جعل الشرع الشريف دافق السيول، وفي طيبة له الأصول، ومنها نشأ وتفرع فله في البسيطة عمومٌ وشمول، وكل قطر به مشمول، وكل ربع به مأهول، وتأكد به المعلوم وتبدد به المجهول، وزالت الشرائع كلها وهو إلى آخر الدهور لا يزول.
نحمده وحمده يطول، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً عمرت بها طلول، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أشرف رسول، وأكرم مأمول، وأفضل مسؤول، ومهندٍ من سيوف الله مسلول، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبي الفروع والأصول، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن الشرع الشريف معدنه في أرضٍ ثوى خير الرسل فيها، ومنشؤه في بلدٍ ملائكة الله تحميها؛ فلا يلي أقضية الناس إلا من طالت ذوائب علمه، وأشرقت ثواقب فهمه، وبنيت على الأصول قواعد حكمه، وتحلى بالورع فتجلى في سماء النجاة كنجمه.
ولما كان فلانٌ هو الذي جذبته السعادة إلى مقرها، وخطبته المغفرة إلى موطن برها، وأهلته الأقدار إلى جوار نبيٍّ هو خاتم الأنبياء وفاتح أمرها، وأصبح للحكم في المدينة، مستحقاً لما فيه من سكينة، وتحصيل للعلم ومن حصل العلم كان الله معينه.
فلذلك رسم أن يستقر................
فليباشر منصباً جليلاً في محل جليل، وليعلم أن سائر الأمصار تغبطه وتحسده وما لمنصبه من مثيل؛ أين يوجد سواه في كل سبيل؟ من قاض هو بسيد المرسلين نزيل، ومن يصبح ويمسي جاراً للمستجير في المحشر الطويل.
فاحكم بين ناس طيبة بورعٍ وتأصيل، وتحريرٍ في تحريم وتحليل، واتق الله في كل فعل وقيل، واستقم على الحق حذار أن تميل؛ فصاحب الشرع أنت منه قريب والنبي من الله قريبٌ وحبيبٌ وخليل، وماذا عسى أن نوصيه وهو بحمد الله تعالى كالنهار لا يحتاج إلى دليل.
وأما الخطابة: فارق درج منبرها، وشنف الأسماع من ألفاظك بدرها وحرر ما تقوله من المواعظ فإن صاحب العظات يسمعك، وتواضع لله فإن الله يرفعك؛ وهذا المرقى فقد قام فيه النبي الأمي سيد الثقلين، ومن بعده الخليفتان قرتا العين، ومن بعدهما عثمان ذو النورين، وعليٌّ رضي الله عنه أبو الحسنين؛ فاخشع، عند المطلع، واصدع، بما ينفع، وانظر لما تقوله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك يسمع، وقاضي المدينة وخطيبها يرجو أن ليس للشيطان فيه مطمع؛ والله تعالى يحوز له الخير ويجمع، بمنه وكرمه!.
الوظيفة الثالثة: مشيخة الحرم الشريف:
وقد جرت العادة أن يكون له خادمٌ من الخصيان المعبر عنهم بالطواشية، يعين لذلك من الأبواب السلطانية، ويكتب له توقيعٌ في قطع الثلث بالمجلس السامي بالياء مفتتحاً بالحمد لله.
وهذه نسخة توقيع شريف من ذلك: الحمد لله الذي شرف بخدمة سيد الرسل الأقدار، وفضل بالتأهل للدخول في عداد كرمه بخدمته من اختاره لذلك من المهاجرين والأنصار، وجعل الاختصاص بمجاورة حرمه أفضل غاية تهجر لبلوغها الأوطان والأوطار، وعجل لمن حل بمسجده الشريف تبوأ أشرف روضة تردها البصائر وترودها الأبصار.
نحمده على نعمه التي أكملها خدمة نبيه الكريم، وأفضلها على مصالح مجاوري قبر رسوله الهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وأجملها الانتظام في سلك خدمة حرمه لأنها بمنزلة واسطة العقد الكريم النظيم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مزلفةً لديه، مقربةً إليه، مدخرةً ليوم العرض عليه، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أشرف نبي بعث إلى الأسود والأحمر، وأكرم من أنار ليل الشرك بالشرع الأقمر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين فخرت الحبشة بهجرتهم الأولى، ونجا النجاشي بما اتخذ عندهم من السابقة الحسنة واليد الطولى، وأولي بلالهم من السبق إلى خدمة أشرف الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل ما يولى، صلاةً لا يزال شهابها مرشداً، وذكرا في الآفاق مغيراً ومنجداً وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من اعتمد عليه من أفاء الله عليه من نعمه، وأفاض عليه من ملابس كرمه، وشرف قدره بأن أهله لخدمة سيد الرسل بل لمشيخة حرمه، وخصه برتبة هي أسنى الرتب الفاخرة، وأجمع الوظائف لشرف الدنيا والآخرة- من رجحه لذلك دينه المتين، وورعه المكين، وزهده الذي بلغ به إلى هذه الرتبة التي سيكون بها- إن شاء الله تعالى- وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين.
ولما كان فلانٌ هو الذي أدرك من خدمة سيد الرسل غاية سوله، وزكت عند الله هجرته التي كانت على الحقيقة إلى الله ورسوله، وسلك في طريق خدمته الشريفة أحسن السلوك، وانتهت به السعادة إلى خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرض بجوهرها الأعلى عن عرض خدمة الملوك، وفاز من مجاورة الحجرة الشريفة بما عظمت عليه به المنة، وحل به مما بين القبر والمنبر في روضة من رياض الجنة، وأقام في مقام جبريل، ومهبط الوحي والتنزيل، يتفيأ ظلال الرحمة الوارفة، ويتهيأ من تلك النعمة بالعارفة بعد العارفة- تعين أن يكون هو المحلى بعقود مشيخة ذلك الحرم، والمتولي لمصالح هذه الطائفة التي له في التقدم عليهم أثبت قدم.
فرسم بالأمر الشريف لا زال............................. أن تفوض إليه المشيخة على خدام الحرم الشريف النبوي: للعلم بأنه العامل الورع، والكافل الذي يعرف أدب تلك الوظيفة: من خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم- على ما شرع، والزاهد الذي آثر جوار نبيه على سواه، والخاشع الذي نوى بخدمته الدخول في زمرة من خدمه في حياته: ولكل امرىءٍ ما نواه.
فليستقر في هذه الوظيفة الكريمة قائماً بآدابها، مشرفاً بها نفسه التي تشبثت من خدمته الشريفة بأهدابها، سالكاً في ذلك ما يجب، محافظاً على قواعد الورع في كل ما يأتي وما يجتنب، قاصداً بذلك وجه الله الذي لا يخيب لرابحٍ أملاً، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً، ملزماً كلاً من طائفة الخدام بما يقربه عند الله زلفى، ويضاعف الحسنة الواحدة سبعين ضعفاً، هادياً من ضل في قوانين الخدمة إلى سواء السبيل، مبدياً لهم من آداب سلوكه ما يغدو لهم منه أوضح هاد وأنور دليل؛ وفيه من آداب دينه ما يغني عن تكرار الوصايا، وتجديد القضايا؛ والله تعالى يسدده في القول والعمل، ويوفقه لخدمة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وقد فعل؛ بمنه وكرمه.
القاعدة الثالثة: الينبع:
وبها وظيفةٌ واحدةٌ وهي النيابة:
وقد تقدم أن نيابتها في بني الحسن، من بني قتادة أيضاً. وعدل بها عن لفظ الإمارة إلى لفظ النيابة تصغيراً لشأنها عن مكة والمدينة. ويكتب لنائبها مرسومٌ شريفٌ في قطع الثلث بالمجلس السامي بغير ياء.
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة الينبع، كتب به لمخذم بن عقيل في عاشر رجب الفرد سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله، وهو: الحمد لله الذي أتم لدولتنا الشريفة أنعماً، وأحسن في تقديم شريف كل قوم تقدماً، وأمضى في كف كف الأعداء رمحاً سمهرياً وسيفاً مخذماً.
نحمده حمداً يكاثر عدد القطر إذا همى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تؤمن بالإدمان عليها منجداً ومتهما، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي شرف من إليه انتمى، وعلى نسبه الشريف ارتمى، وبجواره المنيع احتمى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين طلعوا في صباح كل نهارٍ شموساً وفي عشية كل ليلٍ أنجما، وسلم تسليماً.
وبعد، فإن أولى من أعدنا له سعادة جده، وعدنا إلى عوائده الحسنى لأبيه وجده، ورعت صدقاتنا الشريفة قصده الجميل، وشرفه الذي سما به من أصله إلى النجم فرع لا ينال طويل، وأقرت عينه بسكنه، واستقرت به مراسمنا العالية في مسكنه، وأغنته عنايتنا الشريفة عن انتظار كل نجم سعادة يطلع، وبعثت إليه كل خير إلى وطنه وهو ينبع، منزلة نسبه الصميم، والحسب الذي يتمسك به في قومه كل كريم، والشرف الذي أنارت كواكبه، والوصف الذي ينظم الدر ثاقبه.
ولما كان المجلس السامي، الأمير الأجل، الكبير، الشريف، الحسيب، النسيب، الأوحد، العضد، النصير، الأصيل، فلان الدين، مجد الإسلام، زين الأنام، شرف الأمراء الأشراف، فخر العترة الطاهرة، جمال الأسرة الزاهرة، نسيب الخلافة، عضد الملوك والسلاطين مخذم بن عقيل أيده الله تعالى- هو الذي تقدمت إليه كل إشارة، وحسنت به كل شارة، وتعجلت له بمراضينا الشريفة من مخلق الشفق كل بشارة، وحصل في الينبع ما حصل من الاعتداء، وامتدت الأيدي به إلى ما كان لحجاج بيت الله من وديعة، وظن أنه لا يشيع خبره في البيداء، فخالف الواجب وتعدى الشريعة، فاقتضت آراؤنا الشريفة تفويضها إلى العارف منها بما يجب، العالم من طريق سلفه الصالح بما يأتي فيها ويجتنب، العامل في طاعتنا الشريفة بما هو به وبمثله من أهل الشرف يليق، الماشي في خدمتنا الشريفة وفي خدمة الوفود إلى بيت الله الحرام على الطريق.
فرسم بالأمر الشريف- أعلاه الله تعالى وشرفه، وأنفذه وصرفه- أن تفوض إليه النيابة بالينبع على عادة من تقدمه وقاعدته إلى آخر وقت.
فليقدم تقوى الله في كل ما تقدم، ويقف مع حكم الشرع الشريف فإنه المهم المقدم، وليستوص بالحجاج خيراً فإنهم وفد الله وهو عليه سيقدم، وليؤمن الطريق فإنه بين حرمين: بيت الله ومسجد رسوله صلى الله عليه وسلم، وليحفظ أمانة الله فيما يخلي ويخلف عنده الحجاج- كتب الله سلامتهم- من وداعة، وليأخذ بقلوب الجلابة فإنهم في توسيعهم على أهل الحرمين كالمتصدقين وإن كانوا تجاراً ببضاعة، وليوصل من تأخر من أبناء السبيل إلى مأمنهم، وليخص بالعدل أهل بلده ليستقروا آمنين في موطنهم؛ والرفق فهو الذي بحلله يزين، وبحليه يستحسن، والتأني في معرفة الحق من الباطل فإن به الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الباطل يبين، ولزوم الطاعة، التي أوجبها الله لنا على عباده وندب إليها، وملازمة الجماعة، التي يكفيه من بركاتها أن يد الله عليها، وإقامة الخدمة فيما قبله من البلاد، وكل حاضر وباد، وكل من كاد أو كاد، أو تعرض لعناد العباد؛ فمن أقدم على محذور، أو تقدم إلى محظور، أو ارتكب في الخلاف أمراً من الأمور، فجره بالبغي إلى مصرعه، وحرك السيف لمضجعه، ودع الرمح الذي اعتقله للشقاق يبكي للإشفاق عليه بأدمعه؛ وقد رأيت كيف طريقتنا المثلى، وسيرتنا التي لا تجد لها مثلاً؛ فاسلك هذه المحجة، وحسبك أن تتخذ بينك وبين الله حجة؛ وفي هذا عن بقية الوصايا غنى، والله يزيل عنك الخوف في الخيف ويبلغك المنى في منى؛ والاعتماد...........